لم يعد العالم اليوم مجرد مجموعة من الدول المختلفة داخل قارات متنوعة ، ولم يعد هناك باستطاعة أي شعب الإنغلاق على نفسه ، ولم تعد هناك ثقافة خالصة لجنس ما، ولم تعد اللغة عائقاً في الإنصهار في الآخر والتعرف عليه ، بل أضحى العالم اليوم قرية كونية كبيرة تعجز الحدود الجغرافية عن فصل نجوعها وكفورها ، فما يحدث بمشارق الأرض أو شمالها يصل بأقل من الثانية لمغارب الأرض أو جنوبها ، ويعود الفضل في ذلك لتطور وسائل الاتصالات الحديثة من إنترنت وأقمار صناعية وشبكة اتصالات لاسلكية ووسائل اتصال تحت التطوير.
وكان نتيجة لما مضى ظهور ما يسمى بالعولمة التي شغلت تفكير المهتمين والمتابعين لتطورات الأمور على الصعيد العالمي منذ بداية عقد التسعينيات من القرن العشرين وحتى الآن، ومازال هذا الموضوع من الموضوعات الساخنة التي تثير نقاشاً واسعاً وجدلاً حاداً في منطقتنا العربية وفي العالم على حدّ سواء، إذ استحوذ هذا الموضوع على كتابات الأكاديميين ورجال الإعمال والرأي العام والتيارات السياسية والفكرية المختلفة التي عقدت مئات الندوات والمؤتمرات واللقاءات وكتبت الأوراق والمقالات والبحوث وصدرت الكتب والمجلدات، ونشب الخلاف بين مؤيد ومعارض؛ ولا غرابة في ذلك، لأن مسألة العولمة لها العديد من الجوانب والزوايا التي تثير اهتمام هؤلاء ( هناء محمود الفريحات : العولمة : مفهومها وتحدياتها التربوية الداخلية والخارجية وسبل مواجهتها ، المجلة التربوية الدولية المتخصصة - الجمعية الأردنية لعلم النفس – الأردن ، مجلد 4 ، عدد 2 ، 2015 ، ص 52 )
"ولم يكن الأدب بمعزل عن العالم المتغير من حوله ، فهو مرآة لعصره ، لذا تأثر بالعولمة ذاك التأثر الذي أخذ أبعاداً أخرى تتعلق بتغيير أنماط المستهلكين الجدد له ، وتغيير أنماط القراءة والعادات الذهنية في التلقي ، فالمستهلكون عادة هم الذين يقودون التغيير لذا وجب الاقتراب من المستهلكين الرقميين ، الشباب على وجه الخصوص وإبقاء الإتصال معهم إلى جانب ما للتقنية بشكل عام من جانب سيادي سلطوي على الإنسان وعلى الطبيعة ، إذ لها منطقتها الإيدلوجية في السيطرة بكل أوجهها . " ( أميرة على عبدالله الزهراني : السرديات الرقمية القصة القصيرة جدا عبر فضاء تويتر نموذجا ، مصر ، مجلة الدراسات العربية ، عدد 27 ، مجلد 6 ، 2013 ، ص 3736ص 3736 )
والأدب بشتى فروعه أداة تغيير لا تقل أهمية عن الاقتصاد والسياسة والعلوم التطبيقية بفروعها المختلفة ، وحين حدث الانفتاح وذابت الحدود بين الدول تأثر كغيره من الظواهر فأخذ وأعطى ومنحته العولمة رحابة وفسحة فأنطلق عبر السموات المفتوحة ليمارس دوره ، وفي رحلته هذه تشكل وتغير فظهرت له أجناس لم تكن معروفة من قبل هي نتاج طبيعي لاندماجه مع أشباهه من الدول الأخرى ، كما تطورت أجناسه القديمة واكتست بمظهر جديد ، مظهر ناسب معطيات الزمن والعصر الجديد .
1. ماالأبعاد الفكرية لظاهرة العولمة ؟
2. ما التحولات التي أحدثتها العولمة في العلاقات الإجتماعية والثقافية والحضارية ؟
3. ما تأثير الوسائط المعاصرة على تقنيات الكتابة الإبداعية ومضامينها ؟
4. كيف تأثرت الرواية العربية كنموذج تطبيقي لأثر العولمة على الكتابة الإبداعية من حيث التقنيات والمضامين ؟
5. كيف تأثرت القصة القصيرة جدا كنموذج تطبيقي لأثر العولمة على الكتابة الإبداعية من حيث التقنيات والمضامين؟
أولاً : الأبعاد الفكرية لظاهرة العولمة
الأبعاد الفكرية هي النقاط التي ستحدد ماهية هذه الظاهرة ، وتتمثل فيما يلي :
1. معنى العولمة
العولمة لغة : " مشتقة من كلمة )عالَم( بالقتح وهو الخلق كله ، وتشمل كل صنف من أصناف الخلق وجمعه عوالم وعالمون ، ونقصد بها في دراستنا هذه المجتمع البشرى الجديد الذي يبشر به الداعون لقكرة العولمة وهى فكرة جديدة نشأت في الغرب وعرفت بGLOBAL VILLAGE أي القرية العالمية أو العالم كمجتمع واحد والصقة منها GLOBAL=GLOBULARأي العالمية أو الشمولية" ( إبراهيم أنيس وآخرون : المعجم الوسيط ،، القاهرة ، مكتبة الشروق الدولية ، الطبعة الرابعة ، 2004 ، ص 655 ) أما إصطلاحاً فتعرف العولمة بأنها " عبارة عن ظاهرة تشمل كل التحولات التي يترتب عليها إزالة الحواجز بين الشعوب ، وتدويل العالم كله وفق الرؤية الأمريكية ، وفرضها على غيرها من الثقافات مما يؤدي في نهاية الأمر إلى هيمنة الثقافة الأقوى وطمس الهوية الثقافية للشعوب الأخرى . " (هناء محمود الفريحات : مرجع سابق ، ص 53 )
كما تعرف بأنها " الانتقال من المجال الوطني أو الإقليمي (القومي) إلى المجال العالمي أو الكوني global وليس الدولي international فالكلمة الثانية ( الدولي ) تعني وجود الحدود وخطوط الفصل ، بينما الكلمة الأولى ( الكوني أو العالمي ) تعني تجاوز الحدود بل زوالها ، وبعبارة أخرى اللاحدود ، وهذه اللاحدود تشمل اللاحد المكاني (حيث ذلك الفراغ الكوني كله ) ، واللاحد الزماني ( وتشمل حقبة ما بعد الحداثة وما بعد الصناعة ") ، واللاحد البشري ( ويشمل الجماعة الإنسانية كلها ) . (فؤاد عبداللطيف أبو حطب : العولمة والتعليم بين عولمة التعليم وتعليم العولمة ، كتاب المؤتمر القومي السنوي الحادي عشر ، مصر ، 1999 ، ص 3 )
وهي أيضا " اتجاه تصالحي يهدف لتوحيد الشعوب على مستوى العالم من خلال نظام واحد كمثلث بثلاثة أضلاع هي : الاقتصاد والمعرفة والتطور العلمي . " (محمد حسان عوض ، : قضية المناخ وتحديات العولمة البيئية ، مصر ، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي ، 2018 ، ص 7 )
وهي أيضا " كما يعرفها " رونالد روبرتسون " اتجاه تاريخى نحو انكماش العالم ، وزيادة وعى الأفراد والمجتمعات بهذا الانكماش ، أما "مالكوم واترز " فيعرف العولمة بأنها كل المستجدات والتطورات التى تسعى بقصد أو بغير قصد إلى دمج سكان العالم في مجتمع عالمى واحد . " (عبدالرحيم الخليفي : العلاقة بين العولمة والتربية والتعليم ، السنة الثانية ، العدد الخامس عشر ، 2003 ، ص 14 )
ويظهر من التعريف الأول انحيازه للجانب الاستعماري في العولمة واعتبارها وجهاً جديداً لاستعمار الشعوب وفرض هيمنة الأقوى على الأضعف ، أما التعريف الثاني فقد خرج من هذه النظرة إلى رؤية أكثر شمولية ، فالعولمة بالنسبة له تجاوز كل قيود وحدود بين الدول والدويلات ، في حين يركز التعريف الثالث والرابع على الجانب الثقافي والتقدمي للعولمة ، ونحن نرى أن العولمة مفهوم واسع وشامل لاتصالها بجميع المجالات ، وهي ظاهرة تحاول إذابة الحدود الزمانية والمكانية والحضارية والثقافية بين دول العالم ، وهي سلاح ذو حدين ، فهي سلبية إن شابتها نيات استعمارية ، وهي إيجابية إن حمل بين طياتها دعوة للتعارف والتسامح ونبذ الخلافات التي تنشأ عن سوء الفهم بين الشعوب المختلفة
يتبع