في الماضي كان العالم بسيطًا، لم نكن بحاجة إلى أسباب
عديدة للشعور بالسعادة، كانت الظروف والعوامل الإنسانية والاجتماعية والاقتصادية
غير مترابطة ومتداخلة على هذا النحو الذي يشهده عصرنا. لهذا كان شعورنا بالسعادة
أو الحزن أو الألم أو اللذة هو شعور حقيقي نابع عن مؤثرات حقيقية سواء داخلية أو
خارجية عن ذواتنا، لكن اليوم أصبح العالم
أكثر تزييفًا. لماذا أقول ذلك؟!
عالمنا المعاصر أصبحت فيه وسائل الإدراك متعددة، ووسائل
التأثير في السلوك الإنساني أكثر تعددًا، لذا أصبح إنسان هذا العصر أكثر تيهًا
وتشتتًا، لا يدري ماذا يريد، وماذا يفعل، وهل هو حزين أم سعيد. تارة تشعر بالرضا
وتارة تشعر بالرغبة في تحقيق المزيد من الأحلام. من أين تأتي هذه المشاعر
المتناقضة؟
في رأيي الشخصي يأتي هذا بفعل التطور التقني الذي أصبح
العالم يشهده، لاسيما فيما يتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي. يكفي أن ترى صورة أو
منشور على الفيس بوك أو تويتر لتغير مزاجك من السعادة إلى الحزن أو الغضب ومن
الرضا إلى الشعور بالضياع. من الصحيح أن التكنولوجيا سهلت على الإنسان التواصل مع
الآخرين، لكنها لم تعد تعطي للإنسان هذه المساحة من الحرية والاستقلالية في
الشعور. في الماضي على سبيل المثال كان يمكنك أن تشعر بالاسترخاء بعيدًا عن صخب
الحياة ومشاغلها بمجرد أن تغلب باب بيتك، لكن ماذا حدث اليوم؟
انظر مثلًا إلى تعدد وسائل التواصل مع الآخرين، الهاتف
المنزلي ثم تطور إلى الهاتف المحمول ثم الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي. لذا يمكن
القول أن العالم كلما تطور كلما أصبحت استقلالية الإنسان في انخفاض مستمر. ولماذا
نذهب لبعيد!، لننظر على سبيل المثال إلى كم الرسائل الهائلة التي تأتينا باستمرار
من الشركات المختلفة على الهواتف المحمولة مثل رسائل تنظيف المنازل أو إبادة
الحشرات، أليس هذا دليل كافي على أن حرية الإنسان وأمنه أصبحت في خطر؟! من الذي
يعطي الحق لهذه الشركات الإطلاع على بيانات المواطنين، فضلًا عن الحق في الاتصال
بهم؟!
لنعود مرة أخرى إلى مشاعرنا المتناقضة، هل شعرت من قبل
وأنت تتصفح الإنترنت أو الفيس بوك على سبيل المثال أنك شعرت فجأة بالاكتئاب؟ إذا
كانت الإجابة نعم، فأنت لست وحدك في هذا. هناك العديد من الدراسات التي تؤكد أن
زيادة استخدام الإنترنت وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي تزيد من شعور الإنسان
بالوحدة والاكتئاب، كما أن المراهقات هن الأكثر شعورًا بذلك، نظرًا لإهتمامهم
بمتابعة الموضة والأزياء وكيف يبدو مظهرهن على وسائل التواصل الاجتماعي[1].
هناك كتاب صادر عام 2015 في بريطانيا بعنوان "صناعة
السعادة... كيف باعت لنا الحكومات والشركات الكبرى الرفاهية؟" لعالم الاجتماع
والاقتصاد السياسي ويليام ديفيز[2]، فماذا يقول هذا الكتاب؟
يلقي هذا الكتاب الضوء وبصراحة شديدة على ما يعيشه العصر
الحالي من تزييف متعمد لمشاعرنا الإنسانية، بحيث أصبح الإنسان مجرد لعبة في يد
الحكومات والشركات الكبرى ووكالات الإعلانات، مجرد إعلان واحد يستطيع التأثير على
سيكولوجيا الإنسان، بحيث يشعر بالرضا التام لمجرد الحصول على منتج أو سلعة معينة.
هكذا أصبحت السعادة في العصر الحالي، مجرد مشاعر مزيفة مرتبطة بالحصول على أشياء
مادية. وأصبح الهدف النهائي لهذا الكم الهائل من الإعلانات المرئية والمسموعة
والمقروءة ليس تحريض المستهلك على الشراء وإنما التأثير في مشاعر الإنسان، ليتحول
إلى مدمن لا يستطيع العيش بدون هذه المنتجات!
بالطبع هذا لا يعني أن كل ما تقوم به الحكومات أو
الشركات والكيانات المختلفة هدفه الإضرار بالبشر، لكن يبدو أن الكاتب يريد أن يعطي
للإنسان المعاصر صورة متكاملة عن هذا الترابط الهام بين الرأسمالية وبين مشاعر
الإنسان. فعلى سبيل المثال مشاعر مثل الحزن أو الاكتئاب أو الشعور بالضياع هي
مشاعر تؤثر على إنتاجية العامل. لننظر مثلًا على ما أورده الكتاب في هذه الفقرة "
يشير مثلًا تقدير لمؤسسة غالوب للعام 2013 إلى أن عدم إحساس الموظفين بالسعادة
يُكلف اقتصاد الولايات المتحدة نصف تريليون دولار سنويًا بسبب تدني الإنتاجية
والإيرادات الضريبية وارتفاع تكاليف الرعاية الصحية".
الغريب في الأمر أن ما جاء في هذا الكتاب يبدو على
غرابته منطقيًا إلى حد بعيد، فالمتأمل في شأن الاقتصاد العالمي يجد أن الاهتمام
بالسعادة أصبح يجد مساحة واسعة على صفحات تقارير المنظمات الدولية كالأمم المتحدة
والبنك والصندوق الدوليين. نجد على سبيل المثال أنه تم إصدار مؤشر للسعادة عالميًا
عام 2012 من قبل منظمة الأمم المتحدة وتحديدًا من قبل شبكة حلول للتنمية
المستدامة، ويقيس هذا المؤشر المركب مدى شعور الفرد بالسعادة والرضا عن الحياة من
خلال استطلاعات رأي تجري في العديد من البلدان المختلفة. كما يستند المؤشر إلى بعض
المحاور الأخرى مثل الناتج المحلي الإجمالي ومستوى الصحة والتعليم المتوفر في
الدولة[3].
طبعًا تتطور المؤشرات الاقتصادية مع الوقت، فمن الاعتماد
على الناتج القومي الإجمالي إلى الاعتماد على الناتج المحلي الإجمالي ثم مؤشرات
التنمية البشرية، ومؤخرًا إلى الاعتماد على مؤشر لقياس السعادة. أنا لا أحاول
التشكيك في هذه المؤشرات بالطبع ولا كيفية قياسها من الأساس – أترك هذا لخبراء
الاقتصاد – لكن هل يبدو من المنطقي قياس السعادة كميًا؟ أظن أن الفلاسفة وعلماء
اقتصاد مثل جيرمي بنتام وويليام جيفونز قد قضوا أمدًا طويلًا في محاولة قياس
المتعة أو اللذة حسابيًا، بحيث يصبح علم الاقتصاد ذو وجه مألوف لدى المجتمع العلمي،
لكن اليوم أصبحت المنظمات الدولية أكثر جرأة على قياس السعادة من خلال مؤشرات
مركبة تعتمد على استطلاعات الرأي عن مدى شعور الأفراد بالسعادة. ألا تعتقد معي
عزيزي القارئ أنه من السهل التلاعب في تلك الاستطلاعات أو على الأقل أنها لن تكون
دقيقة لأن المشاعر تختلف من لحظة لأخرى ومن شخص لأخر، هذا فضلًا عن طبيعة الأسئلة
التي يتم توجيهها للأفراد.
من الأمور التي تدعو للضحك فيما يتعلق بتزييق أو عدم دقة
التقارير الاقتصادية، ما أخبرنا به أحد أساتذة الاقتصاد ذات مرة من صدور تقرير قبل
ثورة يناير 2011 يؤكد أن المصريين سعداء ويشعرون بالرفاهية والرضا! فعلى ماذا
اعتمد هذا التقرير؟ استند التقرير على ارتفاع شراء المصريين للأجهزة الكهربائية
مثل الغسالات والثلاجات والتلفزيونات، وكأن هذه الأجهزة ليست من ضروريات هذا
العصر، فضلًا عن أن شراء هذه الأجهزة لا يعني على الإطلاق سعادة من قام بشرائها،
فنحن نعرف أن المصريين باتوا يستدينون مقابل هذا الشراء لأنها أصبحت ضمن تجهيزات
الزواج، يكفي زيارة واحدة إلى سجن النساء لننظر إلى عدد الغارمات اللاتي لم تستطعن
الإيفاء بهذه الديون.
لهذا يرى خبير اقتصادي مصري شغل منصب وزير المالية في حكومة
رئيس الوزراء حازم الببلاوي هو الدكتور أحمد جلال في مقال له على جريدة المصري
اليوم بعنوان "السعادة الاقتصادية!" أنه لا يمكن اعتبار مؤشرات السعادة
الاقتصادية بديلًا أفضل عن المؤشرات التقليدية مثل النمو الاقتصادي ومؤشرات
التنمية الاجتماعية والبشرية مثل قياس رفاهة الفرد أو جودة الحياة، وذلك نظرًا لأن
تلك المؤشرات موضوعية في مكوناتها مثل ما يحصل عليه الفرد من دخل إضافة إلى
المستويات التعليمية المتاحة والخدمات الصحية المقدمة وحماية البيئة ومكافحة
الفساد وحقوق المشاركة السياسية...إلخ[4].
ما الذي أريد أن أقوله في نهاية هذا المقال؟ لقد بات هذا
العصر هو عصر التزييف، من السهل التلاعب بالمعلومات والبيانات، بل أصبح من السهل
التلاعب بالإنسان نفسه ومشاعره المختلفة، بحيث تحول الإنسان إلى مجرد آلة تحركها
المؤثرات التكنولوجية المختلفة لتحرضه باستمرار على مزيد من الاستهلاك، بل والغرق
في هذه الموجة الجارفة. لم يعد باستطاعة الإنسان الاختلاء بنفسه، لقد بتنا نشعر
بإدمان مستمر لوسائل التواصل الاجتماعي، لدرجة أنه يصيبنا القلق لمجرد الابتعاد
لدقائق عن الفيس بوك!
ويبدو أنني لست وحدي الذي يشعر بهذه المخاطر، لهذا أردت
أن أشارك القارئ ما أراه حول هذا الأمر. مؤخرًا شاهدت العديد من الأفلام الأجنبية
الممتعة التي تناقش هذه القضية والرغبة في العودة إلى الحياة الهادئة، وأظن أن هذه
الأفلام تناقش بالفعل قضايا الإنسان المعاصر. أحب أن أترك بعض عناوين هذه الأفلام
لمن يريد مشاهدتها، "Into
The Wild"،
"Captain Fantastic"، "Into The Forest"، "The
Edge".