مع انطلاق طفرة الشبكات الاجتماعية والثورة التكنولوجية ككل وقيام المستخدم العادي بالنظر بعين الريبة نحو المجتمع الشبابي الجديد ثم اضطراره نحو تسجيل حساب ما على أحد الشبكات الاجتماعية تحت ضغوط الرأي العام فإن عملية التعرض لآراء الآخرين صارت أكثر تكرارية وسهولة عن ذي قبل (أقصد عصر ما قبل الانترنت والشبكات الاجتماعية). بالنسبة لشخص خجول مثلي وقليل الاجتماعيات فقد صار التعرض المستمر لآراء الآخرين ضربا من ضروب العذاب المستمر الناتج عن اضطراري لقراءة آراء كثيرة متضاربة لأشخاص عاديين عن مواضيع قد تكون أكثر تخصصا من أن يبدي شخصا عاديا مثلي رأيا بها.
كانت الشبكات الاجتماعية في بدايتها وسيلة للتعارف وبناء صداقات جديدة والخروج من الوسط المحيط لعالم أكثر رحابة وأقل مصداقية كذلك. كانت هناك مواقع مثل (hi5) و (myspace) ومنصات لتبادل الرسائل النصية مثل (msn messenger) و (yahoo messenger) و (skype) وكان التواصل عىل الشبكة العنكبوتية في بدايته يهدف في الأساس لبناء علاقات جديدة وفتح آفاق أكبر للمستخدم العادي وكانت هذه هي مزية التواصل عبر الانترنت حتى ظهور عصر فيسبوك.
مارك زوكربرج أتى بفكرة جديدة: لماذا يجب عليك أن تعرف أشخاص جدد؟ سأجعلك تتواصل مع أشخاص تعرفهم بالفعل!. كانت الفكرة تبدو غبية في البداية إذا افترضنا أنه تم عرضها على أي من خبراء التسويق أو المستثمرين، لماذا قد يريد أي منا أن يتواصل مع أشخاص يعرفهم بالفعل؟ ولكن الفكرة نجحت نجاحا مدويا لاعتمادها على غريزة الأمان لدى البشر ورفض المغامرة في مقابل البقاء في مكانك ثابتا والحفاظ على الحياة التي تحياها بالفعل. السؤال أصبح: لماذا يجب أن أعرف أشخاصا جدد قد يكونوا غير آمنين ولا يستحقون المغامرة؟ الآن يمكنني التواصل مع أشخاص أعرفهم بالفعل وأوسع شبكة علاقاتي في الوسط المحيط بي.
اعتمد فيسبوك في البداية على الصفوة من المجتمع. في البداية كان الموقع حصريا للتسجيل لطلبة جامعة هارفارد الأمريكية عن طريق البريد الالكتروني الخاص بالجامعة ثم تطور ليضم جامعات أخرى ومدارس وتوسع من بعدها ليبدأ في ضم طلبة الجامعات والمدارس في أوروبا. وجود هذا المجتمع النخبوي على فيسبوك أثار فضول العامة الذين يتوقون في معظم حالاتهم للتشبه بالصفوة ومحاولة الانضمام اليهم ونجحت خطة فيسبوك عندما تم فتح التسجيل في الموقع للعامة الذين يمتلكون بريدا الكترونيا من أي نوع ثم توسع الموقع مجددا ليصل لطبقات أقل تعليما وصار بامكان المستخدم الذي لا يعرف حتى كيفية انشاء بريد الكتروني التسجيل برقم هاتفه فقط.
كل هذا جميل فعندنا الآن شبكة قوية للتواصل الاجتماعي تحوي أكثر من مليارين من البشر ويمكنها العمل بفعالية بالاضافة لخواص كثيرة من الأمان والخصوصية حتى وإن كانت خصوصية ظاهرية ولكنك تستطيع بالفعل منع مستخدم آخر من قراءة معلوماتك الشخصية ومشاهدة صورك الخاصة. المستخدم الآن يحس بالأمان نحو شبكة اجتماعية عالمية ويمكنه الآن أن يبدأ في المساهمة في هذه الشبكة عن طريق كتابة ونشر محتوى من أي نوع وابداء آرائه وقناعاته الشخصية علنا أمام أصدقائه ودائرة معارفه بل إنه يتخطى هذا ليقوم بابداء رأيه على محتوى لشخص آخر يقوم فيه بابداء رأيه.
كانت المقدمة السابقة لازمة للإجابة على السؤال الذي نطرحه وهو سؤال نفسي في الأساس فسواء وجدت الشبكات الاجتماعية أم لم توجد فالبشر يحبون أن يبدوا رأيا عن أي شيء وكل شيء وكانت الشبكات الاجتماعية هي العامل المساعد والمحفز لعملية ابداء الرأي النمطية التقليدية. تتعدد الأسباب النفسية لدى البشر والتي تجعلهم يميلون بصورة مستمرة للمشاركة في أي حوار ومحاولة ابداء رأيهم فيه وخاصة إذا تعلق الموضوع بمواقف أو مشكلات تمسهم بصورة مباشرة ويمكننا تلخيص أسباب قيام البشر بابداء آرائهم (سواء طلبت منهم أم لم تطلب) في التالي:
1- الاحساس بالقيمة:
قيام شخص ما بابداء رأيه يعزز من صورته الذاتية واحساسه الذاتي بقيمة نفسه عن طريق ابداء رأيه في موضوع ما حتى وإن لم يطلب منه ذلك. مشاركة الآراء الشخصية مع أشخاص آخرين تزيد من احساس الشخص بالاندماج في المجتمع وتعزز من تصوره الشخصي لمكانته في أي مجتمع أو دائرة معارف حتى وإن كان هذا التصور زائفا وحتى لو كان الرأي الذي يبديه هذا الشخص لا قيمة له بالفعل أو مجرد انطباع تم تكوينه من آراء أشخاص آخرين لتتم صياغته في النهاية على أنه رأي شخصي متفرد يحمل قيمة ما. قد يكون هذا الرأي مكررا أو خاطئا أو غير مفيد أوحتى مطابقا لرأي عامة البشر حتى وإن كان عامة البشر على خطأ ولكنه في النهاية يعزز من تصور الشخص الذاتي لاندماجه في المجتمع حتى لو كان مجتمعا من الغوغاء أو الجهلة.
2- التوكيد الخارجي:
يحتاج الانسان دائما الى تثبيت أفكاره و آراؤه الخاصة ويتم ذلك عن طريق مشاركة رأيه مع أشخاص آخرين وقيامهم بسماع هذا الرأي والموافقة عليه ضمنيا. يحاول الشخص الذي يبدي رأيه الحصول على موافقات من الأشخاص المحيطون على آرائه الخاصة حتى وإن كان المحيطون به يتحرجون من تبيان خطئه ولكنه يعتبر سكوتهم عن مجادلته أو حتى قيامهم باشراكه في الحوار نوعا من الموافقة الضمنية على آرائه مما يزيد من تثبيت الآراء الشخصية وترسيخها كمبادئ حياتية سواء كانت صائبة أو خاطئة.
عملية التوكيد الخارجي كما قلنا تعتمد على الموافقة الضمنية على الرأي الشخصي ولذلك يميل البشر إلى الانتماء لدوائر اجتماعية مقاربة في الأفكار حيث تزداد حينها الموافقة على رأي الشخص نتيجة اشتراك الأشخاص المحيطون في جانب كبير من القناعات الخاصة بهذا الشخص. يميل الشخص المتدين لمصاحبة أشخاص متدينين ويميل الليبرالي إلى مصادقة الليبراليين والعلماني إلى مصادقة العلمانيين وأيضا الشخص المنحرف يميل إلى مصادقة المنحرفين.
الشبكات الاجتماعية الجديدة ضخمت من عملية التوكيد الخارجي بشدة عن طريق توسيع دائرة المعارف من نفس النوع والوسط لنفس الشخص وأدت لنوع آخر من أنواع جنون العظمة فعندما يقوم شخص ما بكتابة كلام غير ذي قيمة وتافه في أغلبه ولكنه متسق بشدة مع قناعات الوسط المحيط سيقوم المحيطون به بابداء الإعجاب والمشاركة على هذا المحتوى الرديء بالفعل بل سيقوم الغوغاء بتولي الرد على أي شخص مخالف لرأيهم ورأي صاحب المنشور وسيتحول الأمر في النهاية لقيام الجماهير بكبت أي رأي مخالف للرأي السائد وتثبيت الرأي السائد في النهاية.
3- التوكيد الداخلي:
قيام الانسان بكتابة ومشاركة رأيه الخاص يعزز من التوكيد الداخلي لرأيه عن طريق تذكيره بقناعاته الخاصة وأسبابها ودوافعها. يريد الانسان أن يذكر نفسه دوما بماهيته ودوافعه ويريد توثيق مبادئه في كل لحظة كنوع من الاحساس بالأمان الداخلي والاطمئنان أنه على صواب حتى وإن كان على خطأ. الانسان يقاوم التغيير بشدة ويريد الشعور في كل لحظة بلمحة من لمحات الانتصار النفسي عن طريق الاحساس بأنه على صواب ويعيد استرجاع تلك اللحظة مرارا وتكرارا في صور عديدة ويكون الحديث عن الرأي إحدى صور التوكيد والتوثيق الداخلي للرأي والمعلومة التي يؤمن بها الانسان.
4- الحصول على مكاسب:
قد تتطور عملية ابداء الرأي لدى الانسان لتصير أكثر احترافية بحيث تتطور عملية ابداء الرأي العادية لمنشور احترافي على الشبكات الاجتماعية يلقى القبول والاعجاب ويساعد من تعزيز الاحساس الداخلي بالقيمة والانتصار عن طريق تحقيق الشهرة على مواقع التواصل الاجتماعي. عندما يقوم شخص ما بابداء رأي ما حتى ولو كان هذا الرأي لا يحتوي على أي قيمة مضافة للقارئ فإن التفاعل المستمر مع المنشورات يحفز من الدافع الداخلي للانسان للقيام بابداء رأيه مرات أخرى بناء على قاعدة جماهيرية تزداد كل يوم طمعا في الوصول للشهرة حتى ولو لم يكن هناك أي مكسب مادي من وراء هذا الادمان المستمرعلى ابداء الآراء عن أي شيء.
الشخص الأكثر احترافا من المدون الشبكي العادي يقوم بانشاء مدونة احترافية أو موقع خاص يقوم فيه بابداء رأيه وصناعة علامة تجارية خاصة باسمه أو موقعه الالكتروني وفي حال ازدياد أعداد المتصفحين سيقوم الناشر باضافة بعض الاعلانات هنا وهناك طمعا في المكسب المادي وهي عملية مشروعة بكل تأكيد وأكثر منطقية من مجرد ابداء الرأي في منشور على الشبكات الاجتماعية بدون أي محصلة مادية أو نفع من أي نوع اللهم سوى الشهرة الزائفة.
قد يحترف بعض الأشخاص عملية ابداء الرأي في مجالات متخصصة وتصير عملا بدوام كامل مثل مستشار العلاقات الزوجية والطبيب النفسي ومدرب التنمية البشرية. لاشك أن احتراف عملية ابداء الرأي كعمل يحتاج لدراسة كثيرة واطلاع واسع بالاضافة لخبرة واسعة في التعامل الاجتماعي في مواقف معينة ولكن العامل المؤكد هو أن الشخص الذي يحترف عملية ابداء الرأي يحب عمله بكل تأكيد ولابد أن يكون نابعا عن غريزة نفسية قوية وموهبة في اقناع شخص ما بدفع المال للحصول على استشارتك.
قام العالم أبراهام ماسلو بنشر ورقة بحثية في عام 1943 يشرح فيها نظريته الخاصة للحاجات الانسانية في الأشخاص الأصحاء وقام بترتيب الاحتياجات الانسانية في هرم تسلسلي من الأسفل للأعلى بدءا بالحاجات الأساسية للانسان ووصولا بالحاجات العليا على قمة الهرم وقام بتسميته (هرم ماسلو للاحتياجات الانسانية) كما في الصورة:
كما نرى في هرم ماسلو فإن الحاجة إلى الحصول على الاحترام من الآخرين وتليها الحاجة لتحقيق الذات على القمة هما أسمى الاحتياجات الانسانية بشكل عام وهما الدافع الذي يجعل الكثير من الأشخاص يمارسون عملية ابداء الرأي سواء طلب منهم أم لم يطلب وسواء كانوا على صواب أو على خطأ فالحاجة تظل قائمة وهي غريزة انسانية أساسية. المشكلة الكبرى هي قيام الشبكات الاجتماعية بتسهيل عملية ابداء الرأي لتقفز بالمستخدم مباشرة من القاع إلى القمة الزائفة.
قد يفتقد شخص ما الكثير من الدرجات الأساسية في هرم ماسلو للاحتياجات الانسانية فقد لا يحظى بعمل جيد ولا وظيفة ولا دخل مادي ثابت يؤمن له حاجاته الأساسية من طعام وملبس وقد يعاني من عقد اضطهاد في نطاق عمله ولا يحس بالأمان الاجتماعي بالفعل ولا الوظيفي ولا يملك شيئا. قد لا يمتلك هذا الشخص العلاقات الاجتماعية الأساسية مثل الصداقة والحب وقد لا يحظى حتى باحترام الكثيرين في الوسط المحيط به ولكنه بدلا عن القيام ببناء نفسه وشخصيته على أساس سليم عن طريق تأمين وظيفة ودخل مادي جيد وبناء مسكن وأسرة وعلاقات اجتماعية صادقة وحقيقية فإنه يقرر انشاء حساب على إحدى الشبكات الاجتماعية ويتحفنا بآرائه الرديئة باستمرار ولا مانع من استخدام ألفاظ صادمة والسباب الصريح تحت مسمى ناشط اجتماعي أو مدون أو أي شيء من تلك المسميات البلهاء التي لا تسمن ولا تغني من جوع.
خطورة عملية ابداء الرأي على الشبكات الاجتماعية قد لا تمس المدون بشكل أساسي ولكنها تمس فئة المتابعين والمعجبين الذي يعاني معظمهم من قدر كبير من الجهل وبدلا عن السعي لاستخراج المعلومة الصحيحة من كتاب أو مرجع معتبر فإنهم يعزفون عن القراءة والاطلاع إلى استقاء معلوماتهم من أشخاص يفوقونهم جهلا وجهالة بدعوى الاعجاب.
ينطبق المثل السابق على الكثير من النماذج الظاهرة في أوساط الميديا بدءا بدعاة الدين ودعاة الفن مرورا بدعاة الفتنة والفساد وانتهاء بدعاة الهلاك من أهل الإلحاد والكفر وأنصار اللاسلطوية والكفر بقيم المجتمع ونظام الدولة ككل ويبقى الدافع الرئيس وراء كل ذلك هو الجهل والظلم الاجتماعي الواقع على طبقات كثيرة من المجتمع ليدفعها دفعا إلى الانزواء في ركنها الخاص وراء دعاتها الذين يكونون حاضرين بالمعسول من القول والمنطق الغث الساذج.
هذا المقال ليس دعوة لكتم ابداء الرأي ولكنه دعوة لتحري الرأي الصحيح قبل ابدائه والتثبت من المعلومة والمصدر والعودة للاطلاع وقراءة الكتب وتقصي المعلومة من مصدر موثوق وليس مجرد جماعة من المدونين مجهولي المصدر الذين لا يريدون شيئا سوى تحقيق رغبات انسانية دفينة بداخلهم والقفز على المنطق القائم لحياتهم لصناعة واقع افتراضي وهمي يمنحهم احساس الملوك وسط مملكة خيالية لاوجود لها على أرض الواقع