لماذا يكثر وجود الأطباء في عالم الأدب؟

هناك علاقة خفية بين الطب و الأدب فهما متلازمان إلى حد بعيد ويكثر وجود الأطباء في عالم الأدب سواء في عالمنا العربي أو العالم ككل. يمكنك مطالعة أرفف المكتبات لتجد لقب الطبيب أو (الدكتور) سابقا لأسماء الكثير من الأدباء بدرجة ملفتة. سومرست موم، آرثر كونان دويل، أنطون تشيكوف، روبن كوك، ابراهيم ناجي، يوسف ادريس، علاء الأسواني، أحمد خالد توفيق، مصطفى محمود، نجيب فاروق، أحمد تيمور، زكي مبارك، و الكثير و الكثير أيضا من الأسماء الشابة. 

لماذا يكثر وجود الأطباء في عالم الأدب؟في الصورة الأديب الروسي الشهير و الطبيب (أنطون تشيكوف)

العلاقة بين الأدب و الطب:

الحقيقة أن العلاقة بين الأدب و الطب هو موضوع تم طرحه من قبل عن طريق العديد من دوائر الأدب وستجد ثروة من المقالات على الانترنت عن علاقة الطبيب بالأدب، يمكنك الرجوع لهذا المقال وقد كتبه الراحل (دكتور أحمد خالد توفيق) وهذا المقال على موقع ساسة بوست. يمكنك كذلك الرجوع لجوجل و البحث عن علاقة الطب و الأدب وهي علاقة غريبة و مستمرة منذ قدم الأزل فقد كان ابن سينا صاحب المؤلفات الكبرى في الطب و الأدب طبيبا و أديبا ماهرا أيضا و له العديد من المؤلفات مثل كتاب القانون الشهير. كثير من الفلاسفة أيضا امتهنوا الطب أو العكس فكانت العلاقة بين الطب و شتى أنواع الفنون قائمة. سنحاول في هذا المقال الادلاء بدلونا ومحاولة إصابة نصيبنا من هذا العنوان المتكرر دائما: ما هي العلاقة بين الأدب و الطب؟ أو كما طرحنا سؤالنا وهو: لماذا يكثر وجود الأطباء في عالم الادب؟.

لتحليل العلاقة بين الطبيب و الأدب يجب أن نتفهم نفسية الطبيب الحقيقية بعيدا عن ضوضاء الإعلام و الشهرة فالطبيب في الأساس هو شخص يتعامل مع الكثير من البشر بحكم محيط عمله وملزم بتقديم معلومة طبية معقدة باستخدام مترادفات مختلفة تناسب العديد من شرائح المجتمع، فقد يتعامل الطبيب مع العامل البسيط و الفلاح القروي و أيضا رجل الأعمال و الكاتب المثقف و الإعلامي وربما كان أسهلهم في التعامل هو طبيب مماثل.

بصفتي الشخصية كطبيب تخدير و عناية مركزة فقد شغل السؤال السابق بالي كثيرا وتوصلت لبعض النتائج بحكم عملي ومخالطتي للعديد من المرضى و الزملاء الأطباء عن مدى ارتباط الطب بالأدب و الأسباب التي تؤدي إلى ميل الأطباء الدائم نحو عالم الأدب ويمكنني إيجاز النقاط التي تجمع الطبيب بالأدب في التالي:

1- الطبيب يقرأ كثيرا:

عادة القراءة هي فرض عين على كل طبيب ممارس لعمله حيث يتعين على الطبيب قراءة الكثير لنيل رخصة مزاولة المهنة أولا ثم الاستمرار في القراءة طيلة حياته لجمع الشهادات الوظيفية المختلفة التي تلزمه للترقي وأيضا القراءة طوال الوقت و في أي وقت للحصول على آخر المحدثات الطبية و المعلومات الجديدة وتغير خطط العلاج و البروتوكولات الطبية المتبعة و طرح أدوية جديدة في الأسواق و سحب أدوية قديمة و تحسين أو تقبيح بعض الممارسات الطبية القائمة بالفعل ووجود اتجاهات جديدة في العلاج و التعامل مع المرضى، وكما أن الطبيب عرضة للنسيان كأي انسان عادي فإن الطبيب يحرص أيضا على إعادة قراءة القديم من ما توفر له في عالم الطب لتثبيت معلوماته الطبية ومراجعتها.

وجود القراءة كعادة أساسية شبه يومية في حياة الطبيب يثبت عنده حب القراءة و التعود عليها بعد سنين طوال من القراءة الطبية ولذلك فإن متعة الطبيب تتجه إلى القراءة بوجه عام حيث يجد الطبيب متعته في قراءة مواد أدبية أخرى غير المادة الطبية وتجد الطبيب متذوقا للشعر قارئا للرواية محبا للنثر و واسع الاطلاع على شتى أنواع الكتب و الجديد في عالم الأدب أيضا وليس الطب بوجه خاص.

حب القراءة المتنامي لدى الطبيب يدفعه دون وعي منه في أغلب الأحيان لممارسة الكتابة من حين لآخر و عرض انتاجه الأدبي في محيط عائلته و أصدقائه مما قد يلقى استحسانهم ويدفعه لمواصلة مشوار الكتابة عن طريق التأليف في الشعر أو الرواية أو حتى التنمية الاجتماعية و الأطر السلوكية ويتولى العديد من الأطباء ذوي الكفاءة العالية مهمة كتابة المراجع العلمية الهامة للأطباء كذلك ولعل العامل الأسمى في فصل المرجع العلمي الجيد عن المرجع الضعيف هو أسلوب الكتابة نفسه و رغم تعامل المراجع العلمية مع مادة علمية صرفة فإن الأسلوب الأدبي هو القول الفصل في سهولة المرجع و قدرته على إضافة فائدة عملية لطالب العلم.

كذلك ينصح الكثير من الأدباء الكبار نظرائهم من القادمين الجدد للمهنة بأن يقرأوا كثيرا قبل البدء في الكتابة ولا عجب أن أقوى الكتب هي أوفرها في المعلومة و أوثقها في المصادر و أغزرها في الاطلاع وقد تتأتى سعة الاطلاع للطبيب للأسباب السالف ذكرها وحينها فلن يستطيع كبح جماح الإبداع بداخله ومقاومة قلمه الذي سيكتب رغما عنه.

2- هناك بعض المشاعر لا يحسها سوى الطبيب:

الطبيب يتعامل مع الانسان في أضعف حالاته ويرى منه ما قد لا يراه غيره وحتى أبناء المريض و زوجته قد لا يشعرون بما يشعر به الطبيب نحو مريضهم. يتعامل الطبيب مع الانسان في حالات مرضه و ضعفه و انهياره ويعلم منه ما لا يعلمه غيره، يعلم قلة حيلته و انعدام الأمل، يعلم إيمانه بخالقه وكفره و يعلم أيضا نزواته ونداماته، يكشف عن عورته ويحفظ سره، الطبيب يكشف عن الوجه الحقيقي للانسان ويسقط القناع الذي يرتديه المريض أمام أقرب الناس إليه، يسقط قناع العز و الشموخ و القوة و الثقة بالنفس ليتعامل مع ما تبقى في جسد المريض من الوهن و الضعف، حتى أعتى جبابرة الأرض يسقطون صرعى أمام الطبيب فيراهم في مرضهم وضعفهم وهوانهم ويسمع شكوتهم.

الطبيب يمتلك خبرة انسانية لا يملكها غيره و يعرف من أسرار المريض ما لا يعرفه أقرب أقربائه ولا حتى صاحبته وبنيه. هذه الخبرة الانسانية المتراكمة و الصدمات المتتالية ورؤية المرض و العوز و الفاقة و الموت ومصارعته وجها لوجه ثم التسليم بقضاء الله وقدره وتملك القوة لمواصلة الحياة من بعدها و التعامل مع مرضى جدد أو حتى تكملة يوم هادئ مع أسرته التي لا ذنب لها في أحداث يومه المأساوية، كل هذا يجعل من الطبيب انسان ذو نفسية خاصة و تجربة ثرية في الحياة ولديه دائما ما يكتب عنه لتفريغ مكنون نفسه بل و إن الطبيب قد يمتلك من المفردات ما لا يملكه غيره وستجد قاموس الطبيب في المشاعر (إذا جاز لنا التعبير) يتضمن تعابير و أحسيس اعجازية قد يعجز غيره عن الاتيان بمثلها بمجرد التأمل في الشاطئ أو في كوب من القهوة.

3- الطبيب يعمل دائما على تطوير مفرداته:

بحكم تعامل الطبيب مع كافة أنواع البشر و كافة فئات المجتمع (كما قلنا من قبل) و غوصه في أعمق أعماق الريف و البدو و من ثم تعامله مع النقيض التام من صفوة المجتمع الاجتماعية وأصحاب الملايين ومروره وسطا برجال الصنائع و أصحاب التجارة و الطبقة المتوسطة بكل طوائفها و أيضا طائفة الأطباء بوجه عام، فإن الطبيب لكل ما سبق يتحتم عليه التعامل بمعجم كبير جدا من المصطلحات اللغوية ليتمكن من التواصل مع مريضه و تشخيص حالته و أيضا تمرير المعلومة الطبية المعقدة إلى المريض أيا كان لونه و طبقته الاجتماعية. 

استعمال الطبيب الدائم لمفردات مختلفة باختلاف المريض و اعتياده تبسيط المعلومة المعقدة و اختزالها في كلمات بسيطة ينمي لديه موهبة التعبير و الكتابة بأسلوب شيق يستطيع به التحصل على قلب القارئ و عقله وبالتجاء الطبيب أيضا لخلفيته العلمية فإن القارئ سيعطيه ثقته الكاملة عن طريق اكتسابه معلومة علمية و طبية صادقة وبأسلوب مبسط وسيمكنه التحصل عليها فيما بين سطور رواية عادية أو مقالا غير طبي بالأساس.

4- الطبيب رمز للثقة:

يميل معظم الناس للثقة في كلام الطبيب وخاصة إذا كان طبيبا ممارسا للطب بجانب الأدب - وكثير ما هم - فإن المجتمع بوجه عام يحمل إجلالا و تقديرا لطبيب و دوره في حمل لواء العلم و درء المرض و محاربته، الطبيب صديقك حتما فهو يريد لك الشفاء و العافية على عكس بعض المهن الأخرى التي قد لا تهدف في الأساس لخدمة الانسان على الجانب الانساني أو الاجتماعي بطريقة مباشرة. أنت تثق في الطبيب عندما تكاشفه أسرار مرضك و يحفظ سرك ويتابع معك العلاج حتى تبرأ من مرضك بإذن الله ومن ثم تجد أن منح الطبيب ثقتك في عالم الأدب هو نتيجة منطقية لثقتك فيه على الجانب الانساني منذ البداية و ائتمانك له على حياتك.

5- الأدب مناسب لحياة الأطباء العملية:

معظم الأطباء و خاصة صغار السن منهم يمضون الكثير من الوقت في المستشفى أو أيا كان مكان عملهم و يبيتون الكثير من الأيام في ديار غير ديارهم لتحتم متابعتهم المرضى بصورة دورية عن قرب و استقبال الحالات الطارئة ولا يستطيع الطبيب ترك العمل في أغلب الاحيان بدون تسليم طبيب آخر. حياة الطبيب العملية مختلفة كثيرا عن الحياة العملية لأي مهنة أخرى ونظام العمل الطبي يستوجب على الطبيب المداومة على العمل لأوقات طويلة قد تصل (في بعض البلدان النامية والتي تعاني من عجزا دائما في أعداد الأطباء) إلى أيام متواصلة بدون انقطاع، هذه حقيقة ستعلمها حتما إن كنت طبيبا مصريا مثلي وهذا الواقع هو محفز كبير لصناعة الأدب بالنسبة للأطباء حيث تستلزم فترات عملهم الطويلة المتصلة ممارسة بعض النشاط لكسر دائرة العمل المغلقة ويكون هذا النشاط إما في القراءة بأي شكل من الأشكال أو حتى ممارسة الكتابة بطريقة دائبة. الطبيب يطور من قدراته الأدبية لمواجهة الواقع المؤلم الذي يعيش فيه و رسم واقع أفضل ولا أفضل من الكتابة عن ما يشغل بالك للتخلص منه وتفريغ الكبت النفسي.

6- ربما كان الطبيب اديبا في الأساس:

تتعامل الكثير من المجتمعات العربية مع الطبيب كمثل أعلى يجب أن تكون مثله ولذلك فإن سطوة المجتمعات العربية تدفع الكثير من أبنائها لدراسة الطب عن طريق التحفيز النفسي المستمر ووضع المهنة الطبية كهدف أسمى للطالب الذي لا يملك من أمره الكثير وسط سطوة المجتمع الأبوي وتعامل الآباء مع بعض المهن الأخرى باستخفاف ومنها مهنة الأدب. هذه العملية النفسية المركبة و التي تتكرر كثيرا بصور مختلفة في أي مجتمع عربي مثل القسر على الزواج و القسر على الانجاب و القسر على الدراسة و القسر على العمل، كل هذه العوامل تجعل من الطالب المتفوق عرضة للاكراه على دراسة الطب سواء بطريقة مباشرة عن طريق الحث المباشر أو بطريقة غير مباشرة عن طريق ميل المجتمع بوجه عام نحو المهن العلمية ومحاربة المهن الأدبية و الفنية، و ربما امتلك هذا الطالب موهبة أدبية فذة فيقرر التعامل مع الأدب كهدف ثانوي ومهنة جانبية يمارسها في سره أو في أوقات فراغه بدلا عن أن تصير مهنته الأساسية. هذه المأساة في المجتمع العربي الأبوي دفنت الكثير من المواهب الأدبية و الفنية ومن نجا منهم فقد قرر ممارسة الأدب كمهنة ثانوية بجانب الطب ولذلك يمكننا اعتبار الكثير من الأطباء الادباء بأنهم كانوا في الأساس أدباء تحولوا لدراسة الطب ثم عادوا لممارسة الأدب.

7- أسباب عادية أخرى:

قد يكون المال و امتهان مهنة أخرى تدر بعض الدخل المعقول مع توافر الموهبة الأدبية وقد تكون الشهرة وقد تكون الحاجة لتغيير قيم خاطئة في المجتمع أو إدخال قيم أخرى عليه أو تغيير الواقع أو محاولة الكشف عن بعض الممارسات المجتمعية الخاطئة بوجه عام سواء قاربت أو بعدت عن المجال الطبي. كل ما سبق هي أسباب تجعل الأطباء كما تجعل غيرهم يمتهنون الأدب و الطبيب في النهاية ليس إلا عضوا في مجتمعه يرى بعينه ما يراه غيره و يشعر بما يشعر به الآخرون ويحتم عليه واجبه الانساني و موهبته الأدبية الجيدة أن يكتب عن ما يعتمل في نفسه و ما يمكن أن يصلح به حال مجتمعه فهو في النهاية طبيب يداوي المرضى و الجرحي و أيضا يداوي النفوس و يدفع الضرر عن غيره.

ليس هناك إحصائية قوية تشير لزيادة نسب الأدباء الأطباء عن غيرهم ولكن وجود الأطباء في عالم الأدب هو وجود ملفت حتما وصار لقب (دكتور) علامة للجودة في عالم الأدب و لا عجب أن كثير من الأطباء الأدباء يصرون على سبق أسمائهم بهذا اللقب. العلاقة بين الطب و الأدب علاقة أبدية وقديمة قدم الطب و الأدب و إن توافقنا أو اختلفنا حول صحة المنطق الذي ذكرناه فإننا لا نستطيع أن ننكر الإبداع الأدبي الذي قدمه كثير من الأطباء إلى عالم الأدب و حقيقة فإننا لولا وجود الأطباء في عالم الأدب لافتقدنا الكثير من الأعمال الأدبية الرائعة.

  • Share

    • 6560
    • 7,459