إن الصورة السائدة في كثير من
العقول البشرية والأذهان الآدمية عن معنى ومفهوم الحب هو انه (الانجذاب الغريزي
نحو النوع الآخر) فالأنثى تنجذب للرجل والعكس صحيح، وبناء على هذا المفهوم القاصر
تطورت الصورة النمطية لمفهوم الحب وتم حصرها فيه عند كثير من الثقافات، وأصبح الحب
رديف للزواج أو الصداقة والمعاشرة فقط.
بينما في حقيقة الأمر أن مسألة
(الانجذاب التلقائي) نحو النوع الآخر هي غريزة طبيعية مركبة فينا وتشاركنا فيها جميع الكائنات الحية وليست
مقتصرة على البشر فقط.
فجميع المخلوقات تنجذب نحو أبناء
جنسها من النوع الآخر سواء كانت هذه المخلوقات بسيطة أو معقدة التركيب، وعليه
نستطيع أن ندرك بكل بساطة أن مسألة انجذابنا نحو الأشياء هي بدافع من القوة الغريزة
الطبيعية المركبة فيها ليس أكثر، فنحن نحب الطعام والشراب والنوم بدافع غريزي بحت
أساسه الحاجة إلى إشباع رغبات الجسد ليقوم بوظائفه المتعددة ويواصل مسيرة الحياة.
ويندرج تحت هذا النوع من الحب الغريزي
نوع آخر من المحبة على علاقة وثيقة به مع اختلاف في بعض جزئياته البسيطة.
غالبا ما نرى أن النفس البشرية
تنجذب بشدة نحو الجمال وأي شيء جميل، وعلى سبيل المثال فبمجرد وقوع النظر على
امرأة حسناء جميلة فإنها وللوهلة الأولى تخطف البصر وتحتل مساحة القلب وتشغل
التفكير وقد يدخل صاحبها في حالة غيبوبة فكرية ويصل به (العشق والهيام) بفعل هذه
النظرة إلى مرحلة الجنون، فإما أن يظفر بما رأى أو يموت، وكثيراً ما سمعنا عن قصص
العشاق الغريبة عبر التاريخ وما آلت إليه.
والحقيقة أن هذا النوع من (الحب)
على ارتباط وثيق بالغريزة الطبيعية الأولى وأن الدافع الأساسي وراء ذلك هو دافع جسدي بحت
خال من أي عواطف داخلية أو مشاعر فكرية إلا ما ارتبط منها بشهوة الجسد.
أنواع أخرى من الحب
أن مفهوم (الحب الحقيقي) لا يقتصر
أبدا على الجوانب الغريزية والجسدية بل هو شعور أسمى وأعمق من مجرد نشوه عابرة أو
شهوة طارئة، فالأم تحب ولدها وفلذة كبدها وعلى استعداد تام أن تضحي بحياتها لأجله،
ونرى هذا السلوك أو (المحبة) في جميع الكائنات الحية وليست مقصورة على البشر،
فحاول يوما أن تأخذ بعض الجراء أو القطط الصغيرة من أمها القطة أو الكلبة، لن تستطيع ذلك
ولن تسمح لك الأم أبدا مهما حاولت وستقدم روحها وجسدها فداء ودفاعا عن صغارها.
من هنا يتضح لنا بجلاء أن
(الأمومة) هي جزء أصيل من مفهوم المحبة ويختلف كليا عن النوع الأول (الغريزة) سواء
في الشعور أو الأسباب والدوافع التي تقف خلفه، ونستطيع أن نقول أن كلا النوعين
(حب) مع اختلاف في درجة القوة والأهمية والتأثير المصاحب له، فالغريزة مجرد شعور
مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالجسد ونابع عن احتياجاته المادية الصرفة بينما (الأمومة) هي
في حقيقتها شعور عاطفي عميق جداً مصدره
الرحمة والشفقة النابعة من عاطفة الأم تجاه ولدها وكائنها الصغير الذي أنجبته،
وهنا يظهر الفرق الجوهري والأساسي بين النوعين فالأول يخبو ويقل بمجرد إشباع رغبة
الجسد من مأكل ومشرب وعلاقات حميمية وغيره من متطلبات الحياة، بينما يظل الآخر
ملازما لصاحبه يزيد ولا ينقص ويكبر يوما بعد يوم في قلب من يحمله.
وعليه نستطيع القول أن النوع
الثاني من الحب وهو (الأمومة) أرقى وأسمى وأعمق بكثير من النوع البدائي الأول
(الغريزة).
هناك أنواع أخرى من الحب مرتبطة
ارتباطاً وثيقاً بالنوع الثاني (الأمومة) ونابعة من نفس الأسباب وناتجة عن ذات المصدر،
فالمحبة بين الأخوان والأهل والأقارب والأصدقاء هي شعور وجداني عميق نابع من عاطفة
قوية تجاه الأقارب ولكنها في حقيقة الأمر أقل درجة من عاطفة (الأمومة) وتقع في
مستوى أدنى منها ولكنها مازالت تنتمي بشكل أو آخر لعاطفة الحب الحقيقية.
ونلاحظ هنا أن النوعين السابقين قد
يتداخلان مع بعضهما البعض بتأثير عامل الزمن ولكي ندلل على ذلك من الواقع والتجربة
دعونا نأخذ علاقة الزواج كمثال بسيط، فالزواج في بادئ أمره هو في حقيقته وجوهره
مجرد (حب غرائزي) نابع عن الطبيعة البشرية والحاجة الجسدية الملحة لا أكثر ويكون
ذلك هو الدافع الأساسي والمحرك الفعلي لذلك النوع من الحب، ولكن بعد مضي فترة
طويلة على الزواج قد يتحول ذلك الحب شيئا فشيئا من مجرد حاجة جسدية ملحة تستدعي
إشباعها إلى مشاعر وأحاسيس عاطفية متقدمة نابعة من أعماق النفس ويقوم عامل الزمن
هنا بدور جوهري في ترسيخ العشرة والمحبة الحقيقية بين الزوجين فينتقل الحب من طوره
الأول (الغريزي) إلى مرحلته المتقدمة (العاطفة) فيصبح مع الوقت نوعاً من أنواع (الحب
الأمومي).
حقيقة الحب قبل رابط الزواج
والعشرة
كثيرا ما ننخدع بعبارة (تزوجت عن
محبة) أو بظاهرة (الحب قبل الزواج) وغيره من العبارات والظواهر المخادعة والخاطئة
والتي تصف ظاهرة الحب إجمالا دون تفصيل، فالملاحظ أن انجذاب الشخص نحو النوع الآخر
إنما يتم بدافع طبيعي بحت يشترك فيه جميع الناس والكائنات كما سبق وشرحنا، فعندما
يقع بصري على امرأة حسناء جميلة فإنني سرعان ما أهيم بها وأشعر بانجذاب غريب وعجيب
تجاهها وأحاول جاهداً أن اقترب منها وأتكلم معها ودافعي في ذلك هو رغبة الجسد الغريزية
لا أكثر ولا شأن للحب بمعناه الأسمى والأرقى بتلك الظاهرة وهنا مكمن الخطأ ومحل
اللبس، فالحب قبل الزواج والمعاشرة إنما هو في حقيقته وجوهره مجرد رغبة جامحة
وغريزة بدائية تشترك فيها جميع المخلوقات، فإذا رأيت عاشقاً يتجول مع (محبوبته) أو
عشيقته المزعومة ويهتم بها ويتواصل على الدوام معها وقد تملكت عليه عقله وقلبه وتفكيره
على طريقة الأفلام الرومنسية الأمريكية فاعلم
أن القوة الدافعة الحيوانية هي المسيطرة على
الوضع في تلك للحظات الحميمية الرومنسية ولا شأن (للحب الحقيقي) بمعناه الأسمى
والأرقى بتلك التصرفات.
إن الحب الحقيقي بمعناه السامي
والراقي والمتحول من مجرد رغبات ونزوات مادية إلى مشاعر وعواطف نابعة من الوجدان
العميق في النفس إنما يأتي بعد مضي سنوات على رابط الزواج. فالحب بعد الزواج هو
التوصيف الحقيقي لتلك الظاهرة ولا يشترط أبدا أن نعيش تلك اللحظات الغريزية قبل
الزواج فيما يعرف خطأ بـ (الزواج عن حب) فلا وجود لهذا المصطلح على الواقع أبدا،
وكل ما في الأمر هو رغبة جسدية جامحة مسيطرة سبق وشرحناها باستفاضة أعلاه.
ومن هنا يتضح بجلاء أن العلاقة
الزوجية الحقيقية والناجحة لا ترتبط أبدا بالطقوس والشعائر الغريزية التي سبقت
الزواج (الحب قبل الزواج) وإنما هي رهينة بما بعد الزواج من علاقات وجدانية
وتعاملات مشتركة وعشرة توطد دعائمه وتقوي أركانه فيتحول بمرور السنين إلى مشاعر
محبه حقيقية متبادلة بين الطرفين، فنجد الزوج يخاف على زوجته ويسعى جاهدا لحمايتها
وإدخال السرور إلى قلبها والزوجة كذلك قد تسهر الليالي إذا مرض زوجها أو أصابته
وعكه صحية، ويزيد من تقوية تلك (المحبة الحقيقية) وجود الرابط المشترك الطبيعي بين
الطرفين وهم (الأطفال) فيتحول الزواج بمر السنين إلى علاقة إنسانية راقية ومحبة
حقيقية أسمى في معانيها من مجرد رغبة مؤقتة ونزوة جسدية عابرة.
حب من نوع آخر نادر الوجود
هناك نوع آخر من الحب غريب في
جوهره سامي في معناه وتأثيره يقع في أعلى مراتبه ويتربع على عرش العاطفة والوجدان
وهو أسمى وأرقى وأعلى من النوعين السابقين وهو ما يعرف بـ (الحب الإلهي)، وهذا
النوع لا يعرفه إلا المتصوفون والعبّاد والزهّاد وهو شعور ملائكي منشأه الارتباط
الوثيق بالملأ الأعلى والغوص العميق في ملكوته، وهو يسمو ويعلو على كل أنواع الحب
الأخرى الناشئة عن الملكوت المادي الأدنى من غرائزي وأمومي.
من هنا نستطيع القول أن (الحب)
بمفهومه الكامل يشمل ثلاثة أنواع رئيسية:
-
الحب
(الغرائزي) من مأكل ومشرب وملبس وإشباع لرغبات الجسد المتعددة.
-
الحب
(العاطفي) الأمومة مثالا، ومحبة الأهل والأقارب.
-
الحب
(الإلهي) وهو الحب الناشئ من التعلق المطلق بالملكوت الأعلى.