في البداية "لاتؤذي"................ هذه هي أولى و أقدم قواعد ما يسمى بالclinical ethics أو أخلاقيات الممارسة الصحية أو الإكلينيكية إذا أردنا أن نستخدم الاصطلاح الأكاديمي.
و المعنى الذي أراد أن يوصله أبقراط -الشهير ب "أبو الطب" و المؤرخ لميلاده عام 465 قبل الميلاد وتوفي عن عمر يناهز 95 سنة- هو لا تكن سببا في إلحاق أذىً بالمريض أو متلقي الرعاية الصحية أيًا كانت.... إن المعنى من وراء هذا عظيم جدا لأن متلقي الرعاية الطبية أو التمريضية أو الصيدلية ليس بالضرورة أن يكون مريضًا ..... نعم فالبعض يذهب للصيدلية لشراء مكمل غذائي أو مجموعة من الفيتامينات لتقوية الشعر و الأظفار و الحفاظ على نضارة البشرة -بالطبع أكثرهم من النساء- أو للحصول على نصيحة متعلقة بالنظام التغذوي أو برامج الحمية أو لشراء مستحضر للوقاية من آشعة الشمس sunblock. و كذلك يذهب البعض للطبيب لإجراء تجميلي أو تكميلي و هو لا يعاني من مشكلة صحية حقيقية...... و الأمثلة كثيرة .... المقصود أن أخلاقيات الممارسة الطبية و الصيدلانية و التمريضية ..... تحتم على الممارس أن لا يتسبب في أي أذى لمتلقي هذه الرعاية حتى و إن لم ينفعه بالمعنى المبسط لا تؤذه إن لم تكن ستنفعه ........ و من أمثلة الأذى غير المباشر أن يوصي الطبيب بإجراء فحوصات غير لازمة على الإطلاق لحالة المريض مثلا آشعة بالرنين المغناطيسي لأن المريض يشتكي من ألم بالرأس "صداع" مزمن مثلا فيتحمل المريض أو شركة التأمين تكلفة مادية لم يكن لها داعٍ على الإطلاق...... و كذلك قد يتسبب الصيدلي أو الممرض أو المُسعف في إلحاق أذىً ما بدرجة من الدرجات ...... هذا كله يتنافى مع هذه القاعدة الأصيلة التي تدرس لكل الممارسين الصحيين منذ آلاف السنين .... و ستظل...
هناك الكثير من القواعد المتعلقة بالممارسة الصحية لضمان سلامة المريض و الذي صار علما مستقلا بذاته له اختبارات و شهادات عالمية خاصة به علم سلامة المريض patient safety و لكني سأقطتف بعضا فقط من تلكم القواعد أو المبادئ و ألمح عنها قليلاً كما يتيسر:
بالطبع الترجمة الحرفية لما ورد في المراجع لا يعطي المعنى الصحيح المقصود و لكن المقصود من هذه القاعدة أنَ على مقدم الرعاية الصحية أن يفعل الأصح لمصلحة المريض بالمصري يعني "يعمل الصح" لصالح المريض.
ليس من حق الممارس الصحي إجبار المريض على إجراء فحص أو تدخل معين أو تعاطي عقار معين دون أخذ موافقته فالمريض هو صاحب القرار الأخير في ذلك إلا إذا كان من غير ذوي الأهلية كطفل غبر مميز أو معاق ذهنيًا ففي هذه الحالات المستثناه يجب أخذ موافقة أولياء أمور المريض و في بعض الحالات لا يتوفر الوقت لذلك بمعنى أنه لو لم يتدخل الطبيب أو الممارس الصحي حالاً فإن الشخص قد يفقد حياته ففي هذه الحالات يتوجب على الممارس الصحي فعل ما يمليه عليه الضمير المهني.
بمعنى عدم الخداع أو إخفاء أي معلومة من مصلحة المريض أو/و ذويه الاطلاع عليها و هذا هو بناء الثقة الذي لا ينبغي أن تتزعزع أبدًا بين مقدمي الرعاية الصحية و متلقيها و هنا ينبغي التنبيه على أن هذه مسئولية شخصية و مؤسسية. بمعنى أنها مسئولية كل طبيب و صيدلي و ممرض و مسعف و فني ...... في أي جهة أو مؤسسة على حدًى و كذلك هي مسئولية الوزارات و الهيئات المنوط بها إدارة و رقابة و تنظيم القطاع الصحي في الدولة.
و هذا المبدأ هو عكس المعنى المشار إليه في الأعلى في Autonomy ليس العكس تماما و لكن المقصود هنا هو أن مقدم الرعاية الصحية قد يتخذ قرارا هو الأصح لمصلحة المريض و إن كان هو لا يريده أو قد يعترض عليه تمامًا كما تعطي أنت ولدك الشراب المرَ لأنه علاج لمرضه و هو يتأبى و لكنك تعطيه إياه رغمًا عن إرادته لأنك أدرى بمصلحته ...... و هنا يجدر بنا ذكر حادثة وقعت في عام 1982 أدت إلى سنَ قانون لا أحفظ نصه و لكن سوف أرفق رابط بالتفاصيل و لكنه باللغة الإنجليزية بالطبع .... ملخص الحادث أن امرأة تعرضت لنزيف حاد أثناء ولادتها طفلها و كان يتوجب على الطبيب أن ينقل إليها الدم وريديًا blood transfusion و لكن أهل المرأة منعوه من نقل الدم لابنتهم و ذلك لأنهم ينتمون لطائفة "شهود يهوه" Jehovah's Witnesses و هي طائفة مسيحية تعتقد تحريم نقل الدم... و قد قبلوا أن تموت ابنتهم بدلا من أن يتم نقل الدم لها.
تداولت الصحافة الواقعة و رفعت للمحكمة و تم استصدار قانون يسمح للطبيب إذا كان المريض غير واعٍ بموافقة طبيب ثاني أن يقوم بنقل الدم للمريض متجاهلاً رفض ذويه إذا كان عدم نقل الدم سيؤدي للوفاة.
لا شك أن الطبيب بحكم مهنته يطلع على معلومات خاصة جدًا بالمريض بحيث يتأذى تأذيًا شديدا في حال إفشائها للغير و ربما حتى كان هذا الغير هو من أقاربه و لكنه يأتمن الطبيب عليها و لا يريد أن يعلمها ربما أشقاؤه.... فلا يجوز أبدًا إفشاء هذه المعلومات الخاصة بالمريض. إن القانون في كثير من الدول المتقدمة يحظر على الصيدلي صرف أدوية معينة إلا للمريض شخصيًا و حتى لو حضر أحد والديه ليسأل عن أدويته فلا يجوز أن يطلعهم عليها طالما كان المريض بالغا عاقلا إلا بموافقته المكتوبة.
بمعنى أنه ينبغي على مقدم الرعاية الصحية أن يكون أمينًا فيما يتعلق بالاحتياجات الشخصية أو الاهتمامات الشخصية للمريض بمعنى أعمق أن لا يرجح اهتماماته هو كطبيب أو صيدلي أو .... على اهتمامات المريض فربما يهتم الطبيب مثلا بوصف الدواء الأعلى سعرًا لأنه من وجهة نظره أكثر فعالية بينما المريض يهتم بأن يكون دواؤه رخيصًا لأن لديه التزامات مادية أهم من وجهة نظره فهنا ينبغي ترجيح اهتمامات المريض على اهنمامات الطبيب.
يجب على الممارس الصحي أن يلتزم بتقديم الرعاية الصحية للجميع على حد سواء بنفس الكفاءة و الدقة و ألا يتحيز في ذلك على أساس التوافق المذهبي أو العرقي أو السياسي أو الجنسي أو أي أساس من أسس التمييز...... بل حتى لو كان المريض مجرما و يستحق العقوبة فإنه لا يجوز إهمال رعايته الصحية الموكلة للممارس الصحي فهو يقوم بما يوجبه عليه الضمير المهني تجاه جميع البشر هلى حد سواء بل و إذا كان متلقي الرعاية الصحية حيوانا فإن الرعاية البيطرية تستلزم المعايير و المبادئ ذاتها.
و هكذا نكون قد تعرضنا لشهر مبادئ أخلاقيات الممارسة الصحية بمفهومها الواسع جدًا و لا شك أن ما يترتب على انتهاك هذه المبادئ من الحوادث و الأذى هو ما نراه بكثرة للأسف الشديد في بلادنا.
أتمنى أن نكون على قدر المسئولية المهنية و الأخلاقية جميعًا.