" يا رب السموات، إلى أي مدى سارت بي الأمور " … تلك هي صرخة الإنسان الوحيد البائس وسط العالم المادي القاسي من حوله … صرخة أراد الكاتب النرويجي الكبير كنوت هامسون إيصالها لمسامعنا في روايته الخالدة ” الجوع ” على لسان شخصيتها الًأساسية "طانجن" ؛ ذلك الكاتب الصحفي المسكين الذي يعاني التشرد والفقر الجوع في شوارع مدينة كريستيانا الباردة الاسم القديم لأوسلو.
طانجن انسان بائس، يائس، جائع.. يحيا حياة التشرد فى مدينة كريستيانا. طانجن يعيش في فقر شديد، لا يملك مأوى، ولا يملك ثمنًا للطعام، يسير ملابسه بالية. قلة الطعام جعلت منه انسان ضعيف الجسمان هزيل. كيف وصل طانجن إلى هذه الدرجة من الفقر والبؤس هذا ما لا نعرفه. ورغم ذك فهو انسان مثقّفٌ، يكتب جيدا. يكتب العديد من المقالات ويبيعها نظير بعض الكرونات ليسد جوعه. لم يستطيع الحصول على وظيفة أخري فهذا يكلفه خمسين كرونا التى لا يملكهم بالطبع، فهو بالكاد يمتلك القلم والأوراق.
تدهور حالة طانجن فلا يمكنه دفع ايجار منزله فيصبح الشارع مأواه، وتمضي حياته على هذا النحو بعدما أصبح الجوع رفيقا له. قد يعتقد البعض أن الظروف هى التي تقف أمامه ولكن فى الحقيقة هو شخص متردد، فيقوم بكتابة مسرحية ويتخلص منها فى المشهد الأخير، ثم يقوم بكتابة مقال ولكنه لا يسعى إلي نشره. فكان طانجن يحاول كتابة مقالٍ بعنوان "بحث في المعرفة الفلسفية"، ورغم أن أي مقالٍ يقوم بكتابته يهدف إلى الحصول على بعض النقود، ولكنه يتأخر عن كتابة المقال ويضع حجة وهى أنه قد فقد قلمه في مكتب الرهونات، وذلك لأنه كان يرهن أحد أشيائة ليعطى فقيرا المال!
أما المرة التي حصل فيها على مال وفير وقرر أن يتناول وجبة دسمة، فرفضها بدنه فكانت تلك هى كلماته "بدأ الطعام يقوم بمفعوله، ولكني عانيت منه كثيراً ولم أستطع تحمله أكثر من ذلك، اضطررت لأن أفرغ فمي قليلاً في كل ركن مظلم أصل إليه، وأخذت أحاول بكل قوة أن أسيطر على هذا الغثيان الذي يهددني بتفريغ ما في جوفي من جديد".
طانجن نموذجًا لإنسانٍ متعلم يملك الفكر والقلم فهو انسان مثقف، بل أيضا انسان يملك أخلاق تجعله يرهن آخر ما يملك ليعطى فقير سائل المال. لا يجيد الأفعال السيئة من السرقة. فمهما ارتكب من أخطاء فهو يبقى على أخلاقه وقيمِه دون أن يتنازل. طانجن لا يهمه الا حريته، فهو يرفض البقاء فى السجن رغم وجود الطعام والمأوى ولكنه كيف يتحمل الظلام ويفقد النور؛النور الذى يجعله قادر على الحياة.
و نرى جانب أخر فكيف يعامل الآخرين طانجن، وكيف يسخر ويستنزف الآخرين طانجن، فلا أحد يهتم بقيمته. فالانسان البسيط يتم هرسه بسهولة، فيفقد المعلم والمثقف قيمته. أن الجهل ينتشر وسط الفقراء وذلك لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف التعلم، ولكن هذا الفقيرٌ المتعلم صاحبُ المبادئ، والذي لا يمكن استغلاله يعاني من الجوع الشديد، وينام تحت المطر.
لم تكن القصة السابقة الا رواية "الــجـــــوع" للكاتب النمساوي "كنوت هامسون". كنوت هامسون عانى وهو صبياً وعمل لدى بائع أحذية، ثم بائعاً متجولاً، ولذلك هناك تقارب بين شخصيته الحقيقية وشخصية البطل في روايته. مع الاختلاف بين هامسون الذي استطاع أن يحقق النجاحات المتتالية في علام الأدب حتى حصل على جائزة نوبل وبين بطله المستسلم والذي ينسحب فى أخر لحظة من أي عمل يقوم به.. فلم يستطيع أن يحقق ذاته، أو يحدث أى اختلاف.
و ما يظهر فى رواية ” الجوع ” بشكل خاص، هو أن طانجن بطل الرواية يعاني من الوحدة، فلا يملك عائلة ولا يجمعه أصدقاء، وكأنها نظرة إلى الإنسان الموجود بداخلنا فيتخطى معنى الجوع لمعان أخرى، فيختلف معنى الجوع من شخص لآخر، فهل الانسان مغرور بطبعه أما هذا ما وصل اليه.. فيجعلنا ننظر بداخلنا ويعري لنا ضعف الانسان ووحدته أمام تقلبات الحياة وصعوبتها.
تأثر هامسون بحياته وظهر ذلك في العديد من رواياته فدائما ما كان يشير إلى المادية بأنها لوّثت الحياة الإنسانية، وظهر ذلك واضحا في رواية الجوع فيتحدث عن شاب كاتب فقير بائس يبحث عن عمل ويكسب قوت يومه من كتابته التي قد ترفض أو تقبل، فيعيش أيامًا طويلة دون طعام، أنه يملك من عرة النفس ما يمنعه من الحصول على أي طعام دون جهد، وأيضا رواية "نمو التربة" التي نُشرت عام 1917م ويحكي فيها عن حياة الفلاحين في النرويج. وفي رواية "فيكتوريا" كتب عن الحب فقال: "ولكن ما هو الحب بالضبط؟ هل هو ريح تداعب شجرة الورد؟ لا إنه شلة تسيل في عروقنا وهو موسيقى جهنمية ترقص حتى قلوب الشيوخ وهم على حافة القبر!".
كنوت هامسون أديب وروائي وشاعر نرويجي قست عليه الحياة فهو ابن لأسرة فقيرة لم تستطيع منحه فرصة التعلم، ولكن لم يكن ذلك الا سببا وحافزا قويا له ليتعلم ويثقف بنفسه، وأصبح الأب للأدب الحديث. فقام بتقديم عشرين رواية، وعدة قصص قصيرة، ومجموعة من القصائد، والمقالات التي تناولت الكثير من الموضوعات ووجهات النظر.
ولد كنوت هامسون عام 1859م وهو الابن الرابع لأسرة فقيرة تتكون من سبعة أبناء، وانتقل مع أسرته للعيش فوق الدائرة القطبية الشمالية، مما أثر على فنه وما يقدمه من أعمال، ولكن لم يدم هذا طويلا ففي التاسعة من عمرهِ يذهب للعيش مع عمه، ولم يكن بالعم الطيب بل كان قاسيا فيضربه ويجّوعه أحيانًا، مما جعل هامسون يعاني من العصبيه المزمنة كما صرح. ولكنه لم يتحمل هذه القسوة كثيرا فلجأ إلى الهرب وذهب إلى لوم. وهناك بدأ حياته المهنية فكان يحاول عمل أى شيئ لكسب لقمة العيش، فعمل كصانع أحذية وبائع متجول وحامل حجارة،و أخيرا سافر إلى أمريكا وعمل بالقطارات، فكان في أي مجال من أجل كسب قوت يومه. ولكن هذا لم ينساه ما تعلمه فكان يستخدم قلمه ويكتب عن كل ما يشغله ويراه ويفكر فيه. فحياة هامسون قريبة من طانجن بطل رواية الجوع ولكنه أقوى كثيرا من هذا البطل فلقد استطاع أن يواجه مصاعب الحياة ويحقق ما يهدف اليه.
فأصبح هامسون واحدًا من أشهر الأدباء في القرن العشرين، ويرجع ذلك عندما صدر له رواية "الجوع" عام 1890م، وقتئذ كان لازال فى ريعان شبابه في الثلاثين من عمره، فأقبل الكثير من القراء عليها وليتبعها بعد ذلك الكثير من رواياته الرائعة، كما لقب بـ "زعيم الثورة الرومانسية الجديدة في مطلع القرن العشرين". وحصل هامسون على جائزة نوبل مما جعله له الكثير من المعجبين.
رحل هامسون عن عالمنا عام 1952م وترك لنا أعمالًا أدبية رائعة مازال يُقبل عليها القُراء.